فصل: ذكر وقعة الرمل التي على جانب نهر عكا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر وصول خبر الألمان:

ولما دخل رمضان من شهور سنة خمس وثمانين وخمسمائة وصل من جانب حلب كتب من ولده الملك الظاهر عن نصرة يخبر فيها أنه قد صح أن ملك الألمان قد خرج إلى القسطنطينية في عدة عظيمة قبل مائتا ألف وقيل مائتان وستون ألفاً يريد البلاد الإسلامية فاشتد ذلك على السلطان وعظم عليه ورأى استشيار الناس للجهاد وإعلام خليفة الوقت بهذه الحادثة فاستدعاني لذلك وأمرني بالمسير إلى صاحب الجزيرة وصاحب الموصل وصاحب إربل واستدعاهم إلى الجهاد بأنفسهم وعساكرهم وأمرني بالمسير إلى بغداد لإعلام خليفة الزمان بذلك وتحريك عزمه على المعاونة وكان الخليفة إذ ذاك الناصر لدين الله أبا العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله وكان مسيري في ذلك المعنى في حادي عشر رمضان ويسر الله تعالى الوصول إلى الجماعة وإبلاغ الرسالة إليهم فأجابوا بنفوسهم وسار عماد الدين زنكي صاحب سنجار بعسكره وجمعه تلك السنة وسار ابن أخيه صاحب الجزيرة سنجر شاه بنفسه يجر عسكره وسير صاحب الموصل ابنه علاء الدين خرم شاه بمعظم عسكره وحضرت الديوان السعيد ببغداد وأنهيت الحال كما رسم ووعد بكل جميل وعدت إلى خدمته رحمة الله عليه وكان وصولي إليه في يوم الخميس خامس ربيع الأول من شهور سنة ست وثمانين وكنت قد سبقت العساكر وأخبرته بإجابتهم بالسمع والطاعة وباهتمامهم بالمسير فسر بذلك وفرح فرحاً شديداً.

.ذكر وقعة الرمل التي على جانب نهر عكا:

ولما كان صفر من تلك السنة خرج السلطان يتصيد مطمئن النفس ببعد المنزلة عن العدو فأوغل في الصيد وبلغ ذلك العدو فاخذوا غرة العسكر واجتمعوا وخرجوا يريدون الهجوم على العسكر الإسلامي فأحس بهم الملك العادل فصاح بالناس وركبت العساكر من كل جانب وحمل على القوم وجرت مقتلة عظيمة قتل وجرح بينهما منهم خلق عظيم ولم يقتل من معروفي المسلمين إلا مملوك للسلطان يقال له أرغش وكان رجلاً صالحاً استشهد في ذلك اليوم وبلغ الخبر إلى السلطان فعاد منزعجاً فوجد الحرب قد انفصل وعاد كل فريق إلى حزبه وعاد العدو خائباً خاسراً ولله الحمد والمنة. وما مضى من الوقعات شاهدت منها ما يشاهده مثلي وعرفت الباقي معرفة خاصة في هذه الأمور، ومن نوادر هذه الواقعة أن مملوكاً كان للسلطان يدعى قره سنقر وكان شجاعاً قد قتل من أعداء الله خلقاً عظيماً وفتك فيهم فأخذوا في قلوبهم من نكايته فيهم وتجمعوا له وكمنوا له وخرج إليه بعضهم وتراأوا له فحمل عليهم حتى صار بينهم فوثبوا عليه من سائر جوانبه فأمسك واحداً منهم بشعره وضرب الآخر رقبته بسيفه فإنه كان قتل له أقرباء فوقعت الضربة في يد الممسك بشعره فقطعت يده وخلي سبيله فاشتد هارباً حتى عاد إلى أصحابه وأعداء الله يشتدون عدواً خلفه ولم يلحقه منهم أحد وعاد سالماً ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً.

.ذكر وفاة الفقيه عيسى:

وهي مما بلغني ولم أكن حاضرها وذلك أنه مرض مرضاً يتعاهده وهو ضعيف النفس وعرض له إسهال أضعفه فلم تقطع صلابته ولم يغب ذهنه عنه إلى أن مات وكان رحمه الله كريماً شجاعاً حسن المقصد كبير الغرام بقضاء حوائج المسلمين توفي رحمه الله طلوع فجر الثلاثاء تاسع ذي القعدة من شهور سنة خمسة وثمانين.

.ذكر تسليم الشقيف سنة ستة وثمانين:

ولما كان يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول علم الإفرنج المستحفظون بالشقيف أنهم لا عاصم لهم من أمر الله وأنهم إن أخذوا عنوة ضربت رقابهم فطلبوا الأمان وجرت مراجعات كثيرة في قاعدة الأوان وكانوا قد علموا من حال صاحبهم أنه قد عذب أشد العذاب فاستقرت القاعدة على أن الشقيف يسلم ويطلق صاحبه وجميع من فيه من الإفرنج ويترك ما فيه من أنواع الأموال والذخائر وعاد صاحب صيدا والإفرنج الذين كانوا بالشقيف إلى صور ولما رأى السلطان من اهتما الإفرنج من أقطار بلادهم بالمكان وتصويب عزائمهم نحوه اغتنم الشتاء وانقطاع البحر وجعل في عكا من الميرة والذخائر والعدد والرجال ما أمن معه عليها مع تقدير الله تعالى وتقدم إلى النواب بمصر أن عمروا لها أسطولاً عظيماً يحمل خلقاً كثيراً وسار حتى دخل عكا مكابرة للعدو ومراغمة له وأعطى العساكر دستوراً طول الشتاء يستجمعون ويستريحون وأقام هو مع نفر يسير قبالة العدو وقد حال بين العسكرين شدة الوحول وتعذر بذلك وصول بعضهم إلى بعض.

.ظريفة:

كان لما بلغ خبر العدو وقصده عكا جمع الأمراء وأصحاب الرأي بمرج عيون وشاورهم فيما يصنع وكان رأيه أن قال المصلحة مناجزة القوم ومنعهم من النزول إلى البلد وإلا فإن نزلوا جعلوا الرجالة سوراً لهم وحفروا الخنادق وصعب علينا الوصول إليهم وخيف على البلد منهم وكانت إشارة الجماعة أنهم إذا نزلوا واجتمعت العساكر قلعناهم في يوم واحد وكان الأمر كما قال السلطان والله لقد سمعت هذا القول وشاهدت الفعل كما قال السلطان، وهو يوافق معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم إن من أمتي لمحدثين ومكلمين وإن عمر لمنهم.

.ذكر وصول رسول الخليفة:

ولم يزل السلطان مجداً في الإنفاذ إلى عكا بالميرة والعدد والأسلحة والرجال حتى انقضى الشتاء وانفتح البحر وحان زمان القتال كتب إلى العسكر يستدعيها من الأطراف، ولما تواصل أوائل العساكر وقوي جيش الإسلام رحل السلطان نحو العدو ونزل على تل كيسان وذلك في ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين ورتب العسكر قلباً وميمنة وميسرة وأخذت العساكر في التواصل والنجدة في التواتر فوصل رسول الخليفة وهو شاب شريف ووصل معه حملان من النفط وجماعة من النفاطين والزراقين ووصل معه من الديوان العزيز النبوي مجده الله تعالى رقعة تتضمن الأذن للسلطان أن يقترض عشرين ألف دينار من التجار ينفقها في الجهاد ويحيل بها على الديوان العزيز فقبل جميع ما وصل مع الرسول واستغنى عن الرقعة والتثقيل بها، وفي ذلك اليوم بلغ السلطان أن الإفرنج قد زحفوا على البلد وضايقوه فركب إليهم لشغلهم بالقتال عن البلد وقاتلهم قتالاً شديداً إلى أن فصل بين الطائفتين الليل وعاد كل فريق إلى أصحابه ورأى السلطان قوة العساكر الإسلامية وبعد المكان عن العدو فخاف أن لا يهجم البلد ويتم عليه أمر فرأى الانتقال إلى تل العجول بالكلية فانتقل بالعسكر والثقل في الخامس والعشرين وفي صبيحة هذا اليوم وصلت كتب أن قد طم العدو بعض الخندق وقوي عزمه على منازلة البلد ومضايقته فجدد الكتب إلى العساكر بالحث على الوصول وعبى العسكر تعبية القتال وزحف إلى العدو ليشغله عن ذلك، ولما كان سحر ليلة الجمعة السابع والعشرين وصل ولده الملك الظاهر غياث الدين غازي صاحب حلب جريدة إلى خدمته معاجلة البر وترك عسكره في المنزلة وخدم والده وبل شوقه منه وعاد إلى عسكره في الثامن والعشرين وسار حتى وصل في ذلك اليوم بجحفله وقد أظهروا الزينة ولبسوا لامة الحرب وكثرت الأعلام والبيارق وضربت الكؤوسات ونعقت البوقات وعرض بين يدي والده وكان قد ركب إلى لقائه في المرج وسار بهم حتى وقف بهم على العدو وشاهدوا من جند الله ما أزعجهم وأقلقهم، وفي أواخر ذلك اليوم قدم مظفر الدين بن زين الدين جريدة أيضاً مسارعة للخدمة ثم عاد إلى عسكره في لامة الحرب فعرضهم السلطان حتى وقف بهم على العدو، وكان ما تقدم عسكر إلا يعرضهم ويسيرهم إلى العدو وينزل بهم في خيمته يمد لهم الطعام وينعم عليهم بما يطيب به قلوبهم إذا كانوا أجانب ثم تضرب خيامهم حيث يأمر وينزلون بها مكرمين.

.لطيفة تدل على سعادة ولده الملك الظاهر عز نصره:

وذلك أن العدو كان قد اصطنع ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها الجلود المسقاة بالخل على ما ذكر بحيث لا تنفذ فيها النيران وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال نشاهدها من مواضعنا عالية على سور البلد وهي مركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر على ما قيل ويتسع سطحها لأن ينصب عليه منجنيق وكان ذلك قد عمل في قلوب المسلمين وأودعها من الخوف ما لا يمكن شرحه وأيس الناس من البلد بالكلية وتقطعت قلوب المقاتلة فيه وكان فرغ من عملها ولم يبق إلا جرها إلى قريب السور وكان السلطان قد أعمل فكره في إحراقها وإهلاكها وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وحثهم على الاجتهاد في إحراقها ووعدهم عليه بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة وضاقت حيلهم عن ذلك وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه أن له صناعة في إحراقها وأنه إن مكن من الدخول إلى عكا وحصلت له الأدوية التي يعرفها أحرقها فحصل له جميع ما طلبه ودخل إلى عكا وطبخ الأدوية مع النفط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ولما كان يوم وصول الملك الظاهر ضرب واحداً بقدر فلم يكن إلا أن وقعت فيه فاشتعل من ساعته ووقته وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستغاث المسلمون بالتهليل وعلاهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب وبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج بالقدر الثانية فما كان إلا أن وصلت إليه واشتعلت كالتي قبلها فاشتد ضجيج الفئتين وانعقدت الأصوات إلى السماء وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالتهب وغشي الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوي الأحلام والنهي منهم حركة الشباب الرعنا وركب السلطان وركبت العساكر ميمنة وميسرة وقلباً وكان أواخر النهار وسار حتى أتى عسكر القوم وانتظر أن يخرجوا فيناجزهم عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلّم من فتح له باب من الخير فلينتهزه. فلم يظهر العدو من خيامهم وحال بين الطائفتين الليل وعاد كل فريق إلى حزبه ورأى الناس ذلك ببركة قدوم الملك الظاهر واستبشر والده بغرته وعلم أن ذلك بيمن صلاح سريرته واستمر ركوب السلطان إليهم في كل يوم وطلب نزالهم وقاتلهم وهم لا يخرجون من خيامهم لعلمهم ببشائر النصر والظفر بهم والعساكر الإسلامية تتواتر وتتواصل.

.ذكر وصول عماد الدين زنكي صاحب سنجار وغيره:

ولما كان الثاني والعشرون من ربيع الآخر وصل عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار يجر عسكره ووصل بتجمل حسن وعسكر تام ولقيه السلطان بالاحترام والتعظيم ورتب له العسكر في لقائه وكان أول من لقيه من العسكر المنصور قضاته وكتابه ثم لقيه أولاده بعد ذلك ثم لقيه السلطان ثم سار به حتى أوقفه على العدو وعاد معه إلى خيمته وأنزله عنده وكان صنع له طعاماً لائقاً بذلك اليوم فحضر هو وجميع أصحابه وقدم له من التحف واللطائف ما لا يقدر غيره عليه وكان قد أكرمه بحيث طرح له طراحة مستقلة إلى جانبه وبسط له ثوب أطلس عند دخوله وضرب له خيمة على طرف الميسرة على جانب النهر. فلما كان سابع جمادى الأولى من هذه السنة وصل سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الجزيرة ووصل في عسكر حسن فلقيه السلطان واحترمه وأكرمه وأنزله في خيمته وأمر أن ضربت خيمته إلى جانب عماد الدين. وفي تاسع الشهر وصل علاء الدين بن مسعود صاحب الموصل مقدماً على عسكره ففرح السلطان بقدومه فرحاً شديداً وتلقاه عن بعد هو وأهله واستحسن أدبه وأنزله عنده في الخيمة وكارمه مكارمة عظيمة وقدم له تحفاً حسنة وأمر بضرب خيمته بين ولديه الملك الأفضل والملك الظاهر. وما من أهله إلا من بسط له من ضيافته وجهاً مضيئاً، ولما كانت ظهيرة نهار ذلك اليوم ظهرت في البحر قلوع كثيرة وكان رحمه الله في نظرة وصول الأسطول من مصر فإنه كان قد أمر بتعميره ووصوله فعلما أنه هو فركب السلطان وركب الناس في خدمته وتعبى تعبية القتال وقصد مضايقة العدو لينسله عن قصد الأسطول، ولما علم العدو وصول الأسطول استعدوا له وعمروا أسطولاً لقتاله ومنعه من دخول عكا وخرج أسطول العدو واشتد السلطان في قتاله من خارج وسار الناس على جانب البحر تقوية للأسطول وإيناساً لرجاله والتقى الأسطولان في البحر والعسكران في البر واضطرمت نيران الحرب واستعرت وباع كل فريق روحه براحته الأخروية، ورجح حياته الأبدية على حياته الدنيوية، وجرى بين الأسطولين قتال شديد تقشع عن نصرة الأسطول الإسلامي وأخذ من العدو الشوابي وقتل من به ونهب جميع ما فيه وظفر من العدو بمركب أيضاً كان واصلاً من قسطنطينية ودخل الأسطول المنصور إلى عكا وكان قد صحبه مراكب من الساحل فيها مير وذخائر وطابت قلوب أهل البلد وانشرحت صدورهم فإن الضائقة كانت قد أخذت منهم واتصل القتال بين العسكرين من خارج البلد إلى أن فصل بينهما الليل وعاد كل فريق إلى خيامه وقد قتل من عدو الله وجرح خلق كثير عظيم فإنهم قاتلوا في ثلاثة مواضع فإن أهل البلد اشتدوا في قتالهم ليشغلوهم عن الأسطول أيضاً والأسطولان يتقاتلان والعسكر يقاتلهم من البر وكان النصر للمسلمين في الأماكن كلها ثم كان وصول زين الدين صاحب إربل في العشر الأواخر من جمادى الأولى وهو زين الدين يوسف بن علي بن بكتكين قدم بعسكر حسن وتجمل جميل فاحترمه السلطان وأكرمه وأنزله في خيمته وأكرم ضيافته وأمر بضرب خيمته إلى جاني خيمة أخيه مظفر الدين.